أعلم أن المقال التالي مكتظ بالمعلومات والمعاني. عندما قرأته لم يخطر ببالي أن يحمل كل هذه المعلومات عن العلامة محمود شاكر. أقدمه هنا من باب "تعلم". لقد غٌرِب بنا وشٌرق وسمعنا عن أنواع كثيرة من الذين إبتلاهم الله بعقولهم ويُقَدَموا للناس على أنهم هم حماة الإسلام وأهله. بينما ماينفع الناس أمثال هذا العلامة فإنه يمكث في الأرض ويخفى علينا تحت وطأة الإنهزام الحضاري الذي تحياه الأمة. إقرؤوا معي ولنتعلم....ربما...من يدري...والله من وراء القصد.
محمود شاكر جبل نفخ فيه الروح
محمود الفقي : المصريون بتاريخ 23 - 12 - 2008
كلما تذكرته جال بخاطري ما قاله واحد من أساطين علم أصول الحديث وهو أبو حاتم الرازي عن صاحبه إسحاق بن راهويه :"ثقة ثبت جبل لم يُر مثله حفظا وجلالة وإتقانا كأنه جبل نفخ فيه الروح." هكذا كانوا يقيمون الرجال وهكذا عرف الإسلام وحده علما يسمى بعلم الرجال. وكأنك يا شاكر جبل أشم قد نفخ فيه الروح لكنه هناك قابع في صحراء لا نهائية يتعذر على أمثالنا استيعاب حجمه بل ولا حتى إشباع عيوننا بالنظر إليه. بداية يا شاكر تقبل عذري لأني أكتب عنك بينما أنا قزم وأنت من أكبر العماليق. إن الناظر إلى هذا النتاج العلمي الضخم لشاكر لا يمكن إلا أن يسلم بأن دراسته تحتاج إلى عمل جماعي لا فردي وبناء على هذه النتيجة سأستعين اليوم بواحد من أشهر كتبه التي أحببتها وتمتعت بما فيها من علم وأدب ومنهج وهو رسالة في الطريق إلى ثقافتنا. هو سفر عظيم يبحث في العديد من القضايا ويورد العديد من الوقائع الدينية والسياسية والفكرية والأدبية ويعتمد في كل هذا على ما تبناه شاكر من منهج استقاه بعد عناء الرحلة التي قضاها خاصة في سنوات شبابه الأولى التي عانى فيها من الحيرة الزائغة والضلالة المضنية والشكوك الممزقة وكيف كان كل هذا حافزا له لاستنباط أفضل المناهج الدينية والأدبية والسياسية والاجتماعية سيما وأنه عاش منغمسا في حياة أدبية ولغوية كاملة. وبقرائتي لهذا السفر يتراءى أمام عيني شاكر وهو يقرأ كالآلة بلا كلل ولا ملل يخرج من كتب الأشعار إلى علوم الحديث وما يتفرع عنها والفقه والآداب والتاريخ وغيرها ويذكر تأثره العظيم بالجرجاني ومذهبه في التذوق الأدبي القائم على قياس النظم واللفظ في القرآن ثم يدلف إلى كنوز من تراثنا العظيم يطبق عليها هذا المنهج الأدبي فيورد على سبيل المثال الكلمة الرائعة لسيبويه في تعريف الفعل:" وأما الفعل فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء وبنيت لما مضى وما يكون ولم يقع وما هو كائن لم ينقطع." ثم يصل إلى مرحلة يكون قد قرأ فيها كل ما أخرجته قرائح العرب من الشعر والنثر وهو ما أفاض في الحديث عنه في كتابه الشهير عن المتنبي وما شرحه من الفساد الذي عم الحياة الفكرية والأدبية والثقافية آنذك ويقسم هذه المرحلة إلى ما قبل المنهج وما بعد المنهج. وإني والله يا قارئي لأعجب من هذا العالم البحاثة الذي في سبيل الوصول إلى منهج لحياته العلمية تجده بنص كلامه قد قرأ تقريبا كل شيء يعني الفلسفة القديمة والحساب والجغرافية القديمة وكتب النجوم وصور الكواكب والطب ومفردات الأدوية بل حتى البيطرة والفراسة ناهيك عن كتب اللغة والأدب حتى يتبين ويزيح الثرى عن الخبيء والمدفون فيها. نقف هنا لبرهة نجده فيها قد استعرض أساطين العلوم الشرعية واللغوية والتاريخ وسائر العلماء العرب ومن فيهم كان له أكبر التأثير فيها فيصيبك يا قارئي الذهول من قدرة صاحبنا على اختزال واختزان كل هذه الرؤى والقراءات. لقد رسم خريطة فكرية حسب القرون الهجرية لكل علماء الإسلام وراح يتتبعهم بدأب ونهم شديدين. يرى أن الدين هو رأس كل ثقافة لأنه فطرة الإنسان والأصل الأخلاقي الذي لا يمكن أن تقوم الحضارة إلا به وإلا صارت الدنيا فوضى عارمة. ينتقل بنا للحديث عن الحروب والصراعات التي دارت خفاء وعلنا بين ديار الإسلام وغيرها وكيف تراكمت أحقاد وضغائن لدى المسيحية الشمالية في أوروبا ضد المشرق الإسلامي مما ظهر بعد ذلك متشحا بثياب الاستشراق والتنصير والاستعمار. يتكلم باستفاضة عن عصور مختلفة يبدأ بالعصور الوسطى ثم عصور النهضة ثم الحروب الصليبية ويفيض في الحديث عما أصاب أركان الدولة الإسلامية من تصدع آنذاك بسبب هذه الحروب الصليبية التي بدأت بقيادة الرهبان وملوك الإقطاع الذين يطمعون في عسل الشرق ولبنه. يؤكد على منبع الحقد الشمالي المسيحي بعد سقوط القسطنطينية في 857 هـ 1453 م عاصمة المسيحية على يد محمد الفاتح مما هز العالم الأوروبي هزة عنيفة ممزوجة بالخزي والخوف والرعب والغضب والحقد. يحكي أمرا يا قارئي كان جديدا علي وهو أن الاستشراق بدأ لأجل الأوروبيين وليس لأجلنا يعني أنه مع الحروب الصليبية مثلا بدأ يظهر رجال من أمثال روجر بيكون الإنجليزي ممن شامٌّوا العرب والعربية وجاهدوا في التعلم ليزيحوا عن أنفسهم وعن ذويهم وأوطانهم الجهل حتى ينشأ حائل يمنع الأوروبيين من الانبهار بحضارة الإسلام التي كانت في أوجها وقتئذ ومن أكبر الأمثلة على ذلك توما الإكويني الإيطالي الكاثوليكي الذي استطاع تحصيل قدر كبير من العلم والمعرفة من ديار الإسلام. ولما سقط آخر حصن للصلييبيين في الشام في عام 1291م تأكد الصليبيون أن ديار الإسلام عصية على الاختراق ولكن المسلمين في ذلك الوقت كما يقول قد أعجبتهم كثرتهم وتاهوا بما أوتوا من زخرف الحياة الدنيا ومن هنا بدأ الإصرار الأوروبي على تحصيل العلوم من ديار الإسلام بكل وسيلة سيما وأن الأوروبيين لن ينسوا بحقدهم أن كنيسة أيا صوفيا قد تحولت إلى مسجد لكن كتائب الإسلام بقيادة محمد الفاتح كانت قد انساحت في قلب أوروبة (هكذا يكتبها الأستاذ شاكر بالتاء المربوطة هي وأفريقية). يطيل أبو فِهر في تأريخ وتصنيف مراحل الصراع بين أوروبا المسيحية والمشرق الإسلامي ثم يتحدث عن التبشير (هكذا يسميه ولا يقول التنصير ولا أدري لماذا) والذي فصل الحديث عنه في كتابه أباطيل وأسمار. تكلم عن قوافل أوروبا المسيحية من الرهبان خاصة لتعلم العربية ودراسة علوم الإسلام لا بغرض الموضوعية العلمية وإنما بغرض توصيل رسالة معينة للأوروبيين بها تشويه متعمد لصورة الإسلام ولغته وثقافته وبنيه لخدمة أهداف الاستعمار والتبشير. وهكذا تكونت منهم جاليات هائلة في مختلف ديار الإسلام وألف المستشرقون لأقوامهم عن الإسلام وأهله آلاف الصفحات والمطويات وهكذا نخلص من العلامة شاكر أن الاستشراق موجه للمثقف الأوروبي ليحمي عقله من تأثير الإسلام وحضارته ويخطيء خطأ جسيما من يظن خيرا بالاستشراق (أعتقد أن شاكر قد سبق إدوارد سعيد في هذه المادة كثيرا وسأثبت ذلك إن شاء الله فيما بعد). ولكن المستشرق لا يمتلك أدواث الثقافة الإسلامية الثلاثة وهي الإيمان والعمل والانتماء وبالتالي ما كان ليستطيع التفوق على أصحاب اللغة الأصليين وهنا ينبري شاكر بقوة ليقول إن الإسلام قرين اللغة العربية وأن الدعوة لفصل اللغة عن الدين إنما هي دعوة فاسدة ومغرضة. وثمة أمر آخر ينبغي لمن تعلم اللغة والثقافة أن يتجرد منه وهو الهوى الذي كان صفة ملازمة للمستشرقين. وهنا يؤكد شاكر على قيمة وجهود الأعلام الخمسة الأبطال الذين جاهدوا في هذا الوقت الذي بدأت فيه شمس حضارة الإسلام في الغروب وهم:
البغدادي صاحب خزانة الأدب والجبرتي الكبير وكلاهما بمصر وابن عبد الوهاب في جزيرة العرب والمرتضى الزبيديّ صاحب تاج العروس في الهند ومصر والشوكاني في اليمن وهم فرسان ما أسماه شاكر بعصر النهضة كل في ميدانه. بعد ذلك أطال شاكر الحديث عن محاولات الغرب اختراق هذه الثغور التي تحاول إحياء الأمة وابتعاثها مرة أخرى وقد أفاض في الحديث عن الحملة الفرنسية على مصر وكيف كان الاستشراق مستكنا في أحشاء هذه الحملة المقيتة التي زودت مسبقا بأدق التفاصيل عن مصر وسكانها وعلمائها واستطرد في الحديث عن كل الجرائم التي قامت بها الحملة على المستوى الفكري والعسكري على حد سواء لتدجين المسلمين. وهكذا يا قارئي تشعر من كلام العلامة شاكر كيف أن الاستشراق كان الآلة التي تستحث العسكر ضدنا وكيف كان زحفه البطيء على مر العصور مدفوعا بحقد على الإسلام والمسلمين وحضارتهم وقد أفاض في الحديث عن جاليات المسيحية الشمالية في قلب ديار الإسلام وزحفهم الشامل نحوها وارتدائهم أقنعة البراءة والبِشر والمداهنة والنفاق في معاشرة المسلمين. تكلم عن عملهم في مصر على وجه الخصوص وإسقاط هيبة المشايخ في عيون المماليك وتعبئة اليهود والأرمن وغيرهم ضد المسلمين ثم الثورة ضد المسلمين والمشايخ الذين كانوا على رأسها وكيف استجاب المشايخ الثوار لدعوة نابليون لإنشاء الديوان وبهذا فإنهم قد أقروا وجود الفرنسيس. تكلم العلامة شاكر بعد ذلك عن علاقة الاستشراق بالكنيسة القبطية وحقده عليها لما لم تستجب لمطامعه واستجابة المشايخ لنابليون وإسناد المشايخ الولاية لمحمد علي ثم تكلم عن أخلاقه ومراقبة الاستشراق له وكيف أنه كان داهية عريق المكر برغم أنه كان أميا بينما خدع المشايخ. بيد أن الاستشراق لم يكن عنه غافلا وقد أطاح محمد علي هذا بعمر مكرم الذي ساعده في الوصول إلى السلطة وثبت هذا الطاغية ملكه وهكذا بدأ وأد اليقظة على يد هذا الداهية الذي حقق للمسيحية الشمالية مأربها. ويجدر بالذكر هنا أن العلامة شاكر يطلق على عبد الرحمن الرافعي اسم المؤرخ المدجن ويثبت عليه أخطاءً كثيرة وهو ما يؤكد أن التاريخ أمر في غاية الخطورة يجب أن نتنبه ممن نأخذه سيما وأن الرافعي كان يشيد بعبقرية محمد علي الذي دبر البعثات العلمية بينما يرى شاكر أن الأمر كان مبيتا له من قبل أساطين الاستشراق وليس من اختراع الجاهل محمد علي. تكلم شاكر عن رفاعة الطهطاوي وما فعله معه المستشرقون وكيف أنه هو وزملاؤه قد حازوا أعلى المناصب بعد عودتهم من بعثاتهم وهي المناصب التي شابت نواصي العلماء في سبيلها ثم تكلم عن حقيقة مدرسة الألسن التي أنشأها الطهطاوي وخطرها والتي لم تكن من بنات أفكار رفاعة بالطبع. ينتقل بنا إلى نقطة في غاية الأهمية وهي الاحتلال الانجليزي لمصر وجعل التعليم كله في قبضة المبشر الخبيث دنلوب وانشطار التعليم في البلاد إلى شطرين ديني في الأزهر ودنيوي في المدارس وما تبع ذلك من تفريغ طلبة المدارس من ماضيهم وبعث الانتماء إلى الفرعونية البائدة ويختم كتابه بالحديث عن آثار ورواسب هذا التفريغ الذي نعاني منه حتى يومنا هذا ويحكيه تحت عنوان قصة التفريغ الثقافي بصورة يا قارئي لم أرى أفجع منها حقيقة ولا أروع منها تصويرا بقلم العلامة شاكر والتي تأتي تحت مسميات عدة كثقافة العصر والتنوير والتجديد مما استوفى بيانه في كتابه أباطيل وأسمار وقد فصل بعد ذلك ما تقيأه دكتور طه حسين مما تعلمه على يد المستشرقين خاصة في كتابه في الشعر الجاهلي وما زرعه في نفوس الناس من شكه ثم ما قاله وأثبته دكتور طه حسين بعد ذلك بكلماته هو بنص حديثه الذي أورده العلامة شاكر من أن الفائز الحقيقي ممن سافر وتعلم في أوروبا هو من أحيا تراثه الإسلامي ولغته العربية ولم يتخلى عن أصوله وتاريخه الإسلامي. وقد أبانت شهادة الدكتور طه التي أوردها العلامة شاكر في آخر سفره ما كان يحاك من تدمير لثقافتنا وتراثنا سيما وان الدكتور طه نفسه قد أيقن أخيرا ماذا يراد وراء كلمة تجديد وهنا يا قارئي أنهي حديثي الذي يتدفق حماسا وحبا وإجلالا لأب من آبائي العظام الذي أتمنى على الله أن يجعل كلماتي في مقالتي هذه في موازين حسناتي يوم القيامة وهذا جهد المقل أهديه لروح أبي وأستاذي وواحد من أعلام ديني وأمتي وحضارتي العلامة أبو فهر محمود شاكر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق